الفكر الإسلامي

 

محاوراتٌ في الدِّين

 الحلقة (5)

 

بقلم :   الإمام محمد قاسم النانوتوي المتوفى 1297هـ/1880م

رئيس الطائفة المؤسسة لجامعة ديوبند

تعريب : الأستاذ محمد ساجد القاسمي / أستاذ بالجامعة

  

 

  

 

 

أفضلية محمد في المعجزات:

       فإذا عُلِمَ أنَّ محمدًا أفضل الأنبياء وخاتمهم فالآن أقول : إنه ليس يجب أن نعترف بأفضلية محمد في الصفات فحسب ، بل يجب أن نعترف بأفضليته في المعجزات كذلك ، وكيف لا؟ فالمعجزات نفسها آثار تدل على الصفات . فإن كان سيدنا عيسى عليه السلام يحيي الموتى ، وسيدنا موسىٰ عليه السلام يقلب العصا ثعبانًا ، فبفضل سيدنا محمد عادَ جِذْعٌ يابس من النخيل كائنًا حيًا كالإنسان .

معجزة محمد تفوق معجزة موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام:

       بيان هذا الإجمال أنَّ رسول الله إذا قامَ خطيبًا يومَ الجمعة أسند ظهره إلى جذعٍ يابسٍ من النخيل منصوبٍ في المسجد، فلما صُنِعَ له المنبر تركه، وقام على المنبر فبكى الجذع بكاءً سمعه الناس، فنزل عن المنبر ووَضَعَ يده عليه واعتنقه، فعاد ساكتًا كالطفل الباكي إذا اعتنقته أمه . وقد شاهد هذا الحادثَ آلاف من النّاس رجالهم ونساؤهم وصغارهم وكبارهم ، فلو شاهده واحد أو اثنان لكان في ذلك مظنّة للكذب وسوء الفهم. وتلك معجزة لا تدانيها معجزة سيدنا موسى عليه السلام ومعجزة سيدنا عيسى عليه السلام .

       بيان هذا الإجمال أنَّ الجسم الميِّت – قبل أن يطرأ عليه الموت – ذو روحٍ . وأما الجذع المتقدَّم ذكره فلم تكن فيها روح ولاحياة ، ثم إنَّ الجسم الإنسانِيّ والحيوانيّ – وإن لم يكن مصدرًا للحياة – قابلٌ للحياة وجاذبٌ لها ؛ لذلك نزلت الروح من العالم العلويّ إلى الجسم في العالم المادّي ، و لازمته طول الحياة ؛ فأنِسَت به وأحبّته ، مما يسهل عود الروح إلى الجسم بعد مفارقتها إياه . وكلُّ ذلك لا يوجد في الجذع .

       قياسًا على هذا فإن كانت عصا سيدنا موسىٰ عليه السلام قد تحوَّلت بفضله وبركته إلى حية تسعى، فقد ظهرت حركاتها وسكناتها بعد ما انقلبت صورةً وماهيةً ، وهذه الصورة والماهية اللتان انقلبت إليهما العصا، مما يتعلق بالحياة علاقةً قويةً ، ومعنى ذلك أنَّ أفعال الحيَّات والثعابين وحركاتها وتقلُّبها وعضُّها ولقفها مما يختص بهذه الصورة والماهية ، ومما لايصدر عن الأحياء فضلاً عن النباتات والجمادات . فظهور الروح في هذه الصورة والماهية ليس بأغربَ وأعجبَ من ظهور الروح والحياة في الجذع الجافّ .

       ثم إنّ عصا سيدنا موسىٰ عليه السلام ظهر منه ما يظهر من الحيَّات والثعابين ، ولم يظهر منه ما يظهر من بني آدم وذوي العقول ، وأما بكاء الجذع الجاف وصياحه حزنًا على فراق رسول الله أو ترك الاتكاء عليه عند الخطبة مما لايظهر إلا من العقلاء الكاملين .

أمثلة من الواقع المشاهد:

       بيانُ هذا الإجمال أنَّ حبَّ الجمال يحتاج إلى القلب، والعين ، والطبيعة ذات الصلاحية التي يميل بها القلب . كذلك حبُّ الكمال يحتاج إلى العقل والإدراك والطبيعــة ذات الصلاحية المذكورة ، وكلُّ واحدٍ من الأمرين أو كلاهما معًا لايوجد إلا في بني آدم بل في كاملي العقول والطباع منهم . ثم إن الكاملين عقولاً وطباعًا لايتصور منهم كذلك إلا إذا علموا بفضائل المحبوب ومناقبه عِلْمَ اليقين وعينَه بل وحقَّه ؛ لأن حصول الحب قبل العلم بفضائله ومناقبه عِلْمَ اليقين صعبٌ وغير ممكن ، كما أنَّ اشتهاء «الحلوىٰ» والرغبة فيها قبل ذوق طعمها غير ممكن. فلم نسمع أحدًا اشتهى طعامًا شهيًّا ورغب فيه قبل أن يذوق طعمه الآن ، ولا قبله ، ولايرى مثله ، ولا يخبره عن طعمه أحد .

       على كلٍ فاشتهاء الأطعمة اللذيذة والرغبة فيها قبل مذاقها لايتصور وكيف لا؟ فباعث الحب فضيلة أو منقبة ؛ لذلك لايحب أحدٌ الأشياءَ القبيحةَ ، فإن زعم أحد أنه يكفي في حب الجمال علم عين اليقين ، فروية حسان الوجوه التي هي مرتبة عين اليقين تكفي لحبهم، ولاحاجة إلى مرتبة أخرى . فالإجابة عن ذلك أنّه قد يحصل حق اليقين بحاسة غير حاسة عين اليقين ، كما في الأطعمة يحصل عين اليقين بحاسة العين ، وحق اليقين بحاسة اللسان .

مراتب اليقين:

       وقد تمس الحاجةُ في حصول حق اليقين إلى حاسة من الحواس الظاهرة هي آلة عين اليقين لاغير، بل المرتبتان : عين اليقين وحق اليقين تتعلقان بحاسة واحدة أو حاسة من الحواس الباطنة تصير آلةً لحق اليقين .

       وبيان ذلك أنَّ الأطعمة تُشتَهى ويُرغَب فيها بمذاقها لا بالنظر إليها ، وأما الجمال فَيُحَبُّ بالنظر إليه لاغير . ففي الجمال يتعلق عين اليقين وحق اليقين بحاسة واحدة ، وفي الأطعمة وغيرها يتعلق عين اليقين بالعين ، وحق اليقين باللسان . لأن الخبر إذا صار مشاهدةً فهو عين اليقين ، والخبر بشرط إذعانه علم اليقين ، والخبر إذا جُرِّبَ واستُعْمِلَ وانْتُفِعَ بمنافعه فهو حق اليقين .

       وجملة القول أنَّ مرتبة حق اليقين ومرتبة عين اليقين تجتمعان في بعض المواضع ، مما يُوْهِمُ الاشتباه ، ويُخيَّلُ أنّه ينشأ الحبُّ والرغبة في مرتبة عين اليقين .

       فلما وعيتم فاسمعوا أنه لما كان الحبُّ منشأه يتعلق بمرتبة حق اليقين لزمَ الاعتراف بأن الجذع الجافَّ قد عَلِمَ بكمالات محمد حقّ اليقين ، وكما أنه ليسَ فوق مرتبة حق اليقين مرتبة كذلك مرتبة حق اليقين لايحصل عليها كل أحد ؛ لأنَّ الروح والكمالات الروحانية أمور خفية ، لا يطلع عليها إلا أولو البصيرة والمكاشفة. وأما كون أحد من أولي البصيرة والمكاشفة فمزية لا يرتاب فيها إلا فاقد العقل .

       على كلٍ فإن تحوَّلت عصا سيدنا موسى عليه السلام ثعبانًا يجري ويسعى فهذا مما يفعله الثعابين كلها ، ومما ليس غريبًا عنها، وأما بكاء الجذع فراقًا لرسول الله فمِمّا يدل على كمالات محمد التي لايطلع عليها إلا من له حق اليقين بالنسبة إلى الكمالات الروحانية . وحق اليقين لايحصل إلا لأولي البصيرة والمكاشفة، على هذا فمعجزة سيدنا محمد تفوق معجزة سيدنا موسى عليه السلام .

الموازنة بين معجزة ضرب سيدنا موسى عليه السلام الحجر ومعجزة نبع الماء من أصابيع سيدنا محمد :

       واسمعوا أيها السادة ! إن انفجر الحجر عيونًا بضرب سيدنا موسى عليه السلام عصاه عليه ، فقد نبع الماء من أصابيع سيدنا محمد ، ومعلوم أنَّ انفجار الحجر الموضوع على الأرض عيونًا ليس بأعجب وأغرب من نبع الماء من أصابع من لحم ودم . ومن منَّا لا يعلم أنَّ الأنهار والجداول كلها تنبع إمّا من الجبال أو من الأحجار أو الأرض . وأما نبع الماء من أصابع من لحم ودم ولو قطرة فلم يسمع به أحد .

       على أنَّ وضعَ سيدنا محمد يدَه المباركة ونبع الماء من أصابعها يدل دلالةً واضحةً على أنَّ يده المباركة منبع البركات ، وذلك معجزة جسمه المبارك ، وأما ضرب سيدنا موسى عليه السلام بعصاه الحجر ونبع الماء منه فإن كان يدل على شيء فإنما يدل على قدرة الله .

الموازنة بين معجزة انشقاق القمر وبين معجزة سكون الشمس أو عودتها بعد غروبها:

       وإن كانت الشمس قد سكنت في مكان طويلاً في معجزة سيدنا يوشع عليه السلام أو عادت بعد غروبها لنبي آخر، فذلك لايدل إلا على أنه قد عرضها السكون بدلاً من الحركة، أو صدرت منها الحركة المعكوسة بدلاً من الحركة العادية ، ومعلوم أنه لا يصعب ذلك بقدر ما يصعب انشقاق القمر فلقتين ؛ لأن الخرق بالنسبة إلى كل جسم ضد لطبيعته ، وأما السكون فهو بالنسبة إلى أي جسمٍ ليس مضادًا لطبيعته ؛ بل الحركة مضادة لطبيعته ؛ لذلك أن خرق الجسم يحتاج إلى سبب ، كما أن الحركة يحتاج إلى سبب. وأما السكون فلا يحتاج إلى أي سبب .

*  *  *

الهامش:

(1)     لما ضرب موسى عليه السلام بعصاه الحجر انفجرت منه اثنتا عشرة عينًا ، فهذا إن دَلَّ على شيء فإنه يدل تأثير الحجر أو العصا . وأما تأثير الحجر فذلك أنَّ الحجر جذب الماء كما يجذب المقناطيس الحديد ، وأما تأثير العصا فذلك أنّ صدمة ضرب العصا على الحجر انفتحت بها منافذه ، كما ينفتح منافذ الثدي بالضغط عليه ، فيسيل منه اللبن . (فخرالحسن)

 

*  *  *

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادى الأولى – جمادى الثانية 1428هـ = مايو – يوليو  2007م ، العـدد : 5–6 ، السنـة : 31.